تفسير بعضِ آياتٍ من سورة يوسف

التحية مجددا للجميع..
أسأل الله أن ينفع الآخرين بمنشوراتي..

اليوم اجتهاد جديد في تفسير سورة يوسف..

بسم الله الرحمن الرحيم

{ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ }
أي قصة يوسف هذه آية من آيات الله وإعجازه.
(المبين) : بات واضحا مدى تأثير قصة يوسف على الكثيرين.

{ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }
هذه تعود إلى الأحرف -الر- التي ترسم جمال اللغة. حتى يثبُت مَن حول النبي بحقيقة استخلاف العرب وإيثارهم على غيرهم.

{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ }
أي أن هذا القرآن يحتوي على خير الكلام. وقد كنت قبله لا تعلم عن هذه القصص.
وهكذا يقع كلام الله في قلب الإنسان وقعا مؤثرا.

{ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ * قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ }
هذا لحقيقة الغيرة بين من يجتبيه الله وبين من عليه الاتباع.
وكأن يعقوب -ع- ربط بين سجود الكواكب وسجود الملائكة لآدم. والأب يعلم مدى الخير والشر في أبنائه ، فيعقوب أراد صون يوسف.

{ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }
يبدو أن سيدنا يعقوب -ع- فهم فحوى الرؤيا بأن يوسف سيكون له شأنٌ على أهله وإخوته ، بينما يوسف -ع- لم يتفطن لها لحداثة عهده بالإيمان.
ولكل رائي من المسلمين نصيب في هذه العبرة.

{ لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ }
لكل من يتسائل عن عداء إخوته له.

{ إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ }
الحقيقة في الحب بين الآباء وأبنائهم ، إن لم يكن صادرا من الإبن فالأب يجدها كارثة في قلب ابنه هذا.

{ اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ }
إخوة يوسف اعتقدوا أن صلاح أمرهم يكون بالتخلص من يوسف. { وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون * ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون } : لا يشعرون أن إفسادهم سيقابله إفساد من الطرف الآخر فتفسد الأرض.

{ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ }
السيارة من المسير ، فهذا أراد التخلص من يوسف بدون سفك دمٍ.

{ قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ }
لي رأي شخصي في هذه الآية واللاتي تليها ، يبدو لي أن يعقوب يعلم بنيّة إخوة يوسف رغم إنكارهم لها.

{ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }
قالوا ذلك من باب الإقناع.

{ قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ }
هو يعلم ما ينوون ليوسف ، واحتج بالذئب لعلهم يتراجعون.

{ قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونَ }
هذا من باب الدفاع والمراوغة.

{ فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ }
يبدو أن الوحي جاء ليوسف فشعر به دونهم ، والدليل حرف العطف في (وأوحينا).
وهنا يتجلى حنان الله ودفاعه عن يوسف في ساعة التعرض للظلم. وكل مؤمن يتعرض لظلمٍ ما لا بد أن يشعره الله بطريقةٍ ما بأنه يعلم ما يحدث وأنه سينصره.
يبدو أن الوحي أخبر يوسف بأنه رسول مصطفى كما هو واضح.

{ وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ }
لربما كان بكاؤهم حينها صادقا نادمين على فعلتهم.

{ قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ }
لكن هنا استغلوا دموعهم الصادقة بتلفيق الكذب بفعلتهم.

{ وَجَاؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ }
يبدو أن يعقوب -ع- حينما رأى الدم الكذب أيقن بتآمر إخوة يوسف عليه. ولأنه لا يملك دليلا ظاهرا عليهم إستكان لله على وصفهم.

{ وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ }
هنا يتعرض سيدنا يوسف لظلمٍ جديد ، إذ لا يحق للسيارة أن تأسره ، لكن لطف الله محيطٌ به.

{ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ }
هؤلاء السَيارة بخّسوا قيمة يوسف الغلام مما يقودنا لمكر الله لنبيه.

{ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }
- (لامرأته) : اللام هنا تشير لفعل القول وليس فعل الشراء.
- يوسف الصديق سيستفيد من الرؤى التي تأتيه من الله استفادة دنيوية تخلصه مما أصابه من ظلم.

{ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ }
سيدنا يوسف آمن وصدّق بوجود الله من خلال وحي الرؤى. وهذا الإيمان بالغيب تسليم وتفويض وتوكيل لأمر الله، لذلك سُمي الدين إسلاما. { الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم لذكر الله }
وهكذا جوزي على إيمانه.

{ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ }
(إنه ربي أحسن مثواي) : يوسف حفظ نفسه من الخطيئة ، ومن يفعل ذلك فغالبا لا يفكر فيها بدون أن تغرره إمرأة برغبتها به.

{ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ }
نبينا هنا فكر بشهوته لوهلة لكن بعدها أبصر بعدم حبه لامرأة العزيز فلم يطع شهوته. والدليل ما تذكره الروايات بأنه تزوج قبلها إمرأة أخرى.

{ وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
هنا يكاد يوسف -ع- أن يتعرض لظلمٍ جديد.
وهكذا حال كل إنسانٍ مؤمن مخلصٍ لله ، لا تتركه الناس في حاله ، لقلة الحب في قلوبهم وتسليمهم لشرور الغيرة والحسد.
بينما يوسف رُبّي على الحب وفعل الخير.

{ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ }
تروي الكتب أن هذا الشاهد طفل رضيع في المهد أنطقه الله.
وقد يتسائل أحدهم لمَ لم يدافع عنه الله هكذا في مرات الظلم السابقة ، وذلك لأن كيد النساء لا يطيق مؤمنٌ فتنته. { وما كان الله ليضيع إيمانكم ، إن الله بالناس لرؤوفٌ رحيم }

{ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ }
لعل هذه الجزئية من قصة يوسف هي أكثر ما يؤثر في قارئ القرآن ، لذلك سميت قصته بـ{أحسن القصص}.

{ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ }
هنا يظهر مدى تساهل العزيز مع امرأته ومدى تساوي الرجل والمرأة في ذلك الوقت. فاكتفى بالرد على خيانة زوجته باعتذارٍ شفهي.

{ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ }
هذا من شيم النساء في كل عصر ، الغيرة والنميمة. ويبدو أنهن نساء من الأشراف.

{ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ }
(بمكرهن) : أرادن التخريب بين زليخا ويوسف.

{ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ }
هنا ظهر انتقام زليخا منهن. ويبدو أنها أعلى النساء شرفا بعد الملك وزوجته.

{ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }
هنا استكان النبي يوسف لاجتماع الملأ عليه. ولولا رحمة الله لما فلت من المعصية.

{ ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ }
هنا يبدو مدى تعلق زليخا وحشيتها بالآلهة الفرعونية دون الإيمان لرب يوسف عز وجل.

---------------

ا.ه
في نهاية القصة يموت العزيز ويتملك نبينا يوسف على مصر ويتزوج زليخا بعد أن تآمن بالله ويملئ جمال الله قلبها لدرجة الإعراض عن جمال يوسف.

{ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }

والحمد لله رب العالمين